الأسواقُ قديماً وحديثاً

الأسواقُ قديماً وحديثاً

Listen to the conversation and answer the questions
استمع إلى المحادثة وأجب عن الأسئلة

كَانَتْ الْأَسْوَاقُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ تُضْرَبُ أَوْتَادُهَا فِي قَلْبِ الصَّحْرَاءِ، حَيْثُ يَلْتَقِي اَلْبَاعَةُ وَالشُّعَرَاءُ وَالْفُرْسَانُ، كُلًّا مِنْهُمْ مُقْبِلاً عَلَى غَايَتِهِ، وَمُظْهِرًا بِضَاعَتَهُ أَوْ مَوْهِبَتِهِ. فَفِي سُوقِ عُكَاظَ، كَانَ التَّاجِرُ يَعْرِضُ سِلْعَتَهُ مُنَادِيًا بِحَمَاسَةٍ، يُثْنِي عَلَى جَوْدَةِ قُمَاشِهِ أَوْ حِدَّةِ سَيْفِهِ، وَالشَّاعِرُ يَنْشُدُ قَصِيدَتَهُ وَاقِفًا بَيْنَ الْخِيَامِ، وَالْفَارِسُ يَتَفَاخَرُ بِمَنَاقِبِهِ مُمْتَطِيًا صَهْوَةَ جَوَادِهِ، ويَسْتَعْرِضُ قُوَّتَهُ وَشَجَاعَتَهُ أَمَامَ الْناس. 

فَلَمْ تَكُنْ الْأَسْوَاقُ مُجَرَّدَ تِجَارَةٍ لِتَبَادُلِ السِّلَعِ فَحَسْبُ، بَلْ كَانَتْ مَجَالِسَ حِوَارٍ وَشِعْرٍ وَتَفَاخُرٍ وَتَعَارُفٍ، تُبْرَمُ فِيهَا الْعُقُودُ، وَتُحَلُّ النِّزَاعَاتُ، وَتُرْوَى الْحِكَايَاتُ وَالْأَخْبَارُ الَّتِي تَنْتَشِرُ كَالنَّارِ فِي الْهَشِيمِ بَيْنَ الْقَبَائِلِ، لِتُشَكِّلَ نَسِيجًا اجْتِمَاعِيًّا وَثَقَافِيًّا فَرِيدًا.

وَمَعَ مُرُورِ الزَّمَنِ، تَبَدَّلَتْ الْمَظَاهِرُ، حَيْثُ يَدْخُلُ النَّاسُ إِلَى الْمَرَاكِزِ التِّجَارِيَّةِ الضَّخْمَةِ مُسْرِعِينَ إِلَى التَّنْزِيلَاتِ وَالْعُرُوضِ الْمُغْرِيَةِ، يَتَنَقَّلُونَ مُحَمَّلِينَ بِالْأَكْيَاسِ الْمُلَوَّنَةِ، وَتُضَاءُ الطُّرُقَاتُ بِأَضْوَاءٍ سَاطِعَةٍ تُبْهِرُ الْأَبْصَارَ، وَيَعْلُو صَوْتُ الْإِعْلَانِ الصَّاخِبِ مُخْتَرِقًا أَجْوَاءَ الزِّحَامِ ، يَدْعُو إِلَى اقْتِنَاءِ كُلِّ جَدِيدٍ وَمُبْتَكَرٍ. ولَمْ يَعُدْ الشُّعَرَاءُ يَنْشُدُونَ عَلَى الْمَلَأِ فِي السَّاحَاتِ، وَلَمْ يَعُدْ الْفُرْسَانُ يَتَفَاخَرُونَ بِبُطُولَاتِهِمْ فِي الْمَيَادِينِ، بَلْ أَصْبَحَ اللَّمَعَانُ يَكْمُنُ فِي وَاجِهَاتِ الْمَحَلَّاتِ الزُّجَاجِيَّةِ الْبَرَّاقَةِ، وَالتَّرْوِيجُ عَبْرَ الشَّاشَاتِ الرَّقْمِيَّةِ وَوَسَائِلِ التَّوَاصُلِ الِاجْتِمَاعِيِّ، الَّتِي تَعْرِضُ الْمُنْتَجَاتِ بِأُسْلُوبٍ جَذَّابٍ وَمُؤَثِّرٍ.

غَيْرَ أَنَّ مَنْ تَمَعَّنَ فِي جَوْهَرِ هَذِهِ التَّحَوُّلَاتِ، رَأَى أَنَّ الْقَصْدَ وَاحِدٌ لَمْ يَتَغَيَّرْ، الْبَحْثُ عَنْ الْحَاجَاتِ الْأَسَاسِيَّةِ وَالْكَمَالِيَّةِ، وَاقْتِنَاصُ الْفُرَصِ الَّتِي تُتِيحُ الْحُصُولَ عَلَى الْأَفْضَلِ بِأَقَلِّ جُهْدٍ أَوْ تَكْلِفَةٍ، وَتَبَادُلَ الْأَخْبَارِ وَالْمَعْلُومَاتِ، وَإِنْ اخْتَلَفَتْ وَسَائِلُ هَذَا التَّبَادُلِ. فَمَا تَغَيَّرَ هُوَ الشَّكْلُ الْخَارِجِيُّ وَالْآلِيَّاتُ الْمُسْتَخْدَمَةُ، وَأَمَّا الْجَوْهَرُ، فَهُوَ ذَاكَ الَّذِي كَانَ مُنْذُ الْأَزَلِ؛ سُوقٌ فِيهِ تُعْرَضُ الْمُنْتَجَاتُ وَالْخِدْمَاتُ، وَيَخْتَارُ الْمُسْتَهْلِكُ مَا يُنَاسِبُهُ، وَيُبَاهِي النَّاسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِمَا اقْتَنُوهُ، سَوَاءٌ كَانَ شِعْرًا يُلْقَى أَوْ سِلْعَةً تُشْتَرَى أَوْ خَبَرًا يُرْوَى.

وَلَعَلَّ أَجْمَلَ مَا فِي الْأَسْوَاقِ الْقَدِيمَةِ وَالْحَدِيثَةِ مَعًا، أَنَّهَا تَظَلُّ مِرْآةً صَادِقَةً لِمَا تَشْتَهِيهِ النُّفُوسُ الْبَشَرِيَّةُ، وَمَا تَتَلَهَّفُ إِلَيْهِ الْقُلُوبُ مِنْ جَدِيدٍ وَمُفِيدٍ وَجَمِيلٍ. وهِيَ شَهَادَةٌ حَيَّةٌ عَلَى طَبِيعَةِ الْإِنْسَانِ الْمُتَغَيِّرَةِ وَالثَّابِتَةِ فِي آنٍ وَاحِدٍ؛ ورَغْبَتُهُ الدَّائِمَةُ فِي الْحُصُولِ عَلَى الْأَفْضَلِ، وَشَغَفُهُ بِالِاكْتِشَافِ، وَحَاجَتُهُ لِلتَّوَاصُلِ وَالتَّبَادُلِ، أَيْنَمَا وُجِدَ، وَأَيًّا كَانَ الْعَصْرُ الَّذِي يَعِيشُ فِيهِ.